كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَصْلٌ:
جَمَعَ اللَّهُ سبحانه بَيْنَ إبراهيم وموسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَعلى سَائِرِ الْمُرْسَلِينَ فِي أُمُورٍ مِثْلُ قولهِ: {إنَّ هَذَا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إبراهيم وموسى}.
وَفِي حديث أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ كتابا أَنْزَلَ اللَّهُ؟ قال: «مِائَةَ كتاب وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ: ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً على شيث وَخَمْسِينَ على إدْرِيسَ وَعشر على إبراهيم. وَعشر على مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ. وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ».
وقال فِي الْحديث: «فَهَلْ عِنْدَنَا شَيْءٌ مِمَّا فِي صُحُفِ إبراهيم؟ فَقال: نَعَمْ وَقرأ قولهُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى بَلْ تؤثرون الْحَيَاةَ الدنيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وأبقى إنَّ هَذَا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إبراهيم وموسى}». فَإِنَّ التَّزَكِّي هُوَ التَّطَهُّرُ وَالتَّبَرُّكُ بِتَرْكِ السَّيِّئَاتِ الْمُوجِبِ زَكَاةَ النَّفْسِ كَمَا قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} وَلِهَذَا تُفَسَّرُ الزَّكَاةُ تَارَةً بِالنَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ وَتَارَةً بِالنَّظَافَةِ وَالْإِمَاطَةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ إزَالَةِ الشَّرِّ وَزِيَادَةِ الْخَيْرِ. وَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَهُوَ الْإِحْسَانُ. وَذَلِكَ لَا يَنْفَعُ إلَّا بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّذي هُوَ أَصْلُ الإيمان. وَهُوَ قول {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى}. فَهَذِهِ الثَّلَاثُ قَدْ يُقال تُشْبِهُ الثَّلَاثَ الَّتِي يَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَهَا فِي القرآن فِي مَوَاضِعَ مِثْلَ قولهِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِالغيب وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. وَمِثْلُ قولهِ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}. وَقَدْ يُقال: تُشْبِهُ الثِّنْتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيوم الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} الْآيَةَ وَقولهِ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}. لَكِنَّ هُنَا التَّزَكِّيَ فِي الْآيَةِ أَعَمُّ مِنْ الْإِنْفَاقِ. فَإِنَّهُ تَرْكُ السَّيِّئَاتِ الَّذي أَصْلُهُ بِتَرْكِ الشِّرْكِ. فَأَوَّلُ التَّزَكِّي التَّزَكِّي مِنْ الشِّرْكِ كَمَا قال: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} وَقال: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}. وَالتَّزَكِّي مِنْ الْكَبَائِرِ الَّذي هُوَ تَمَامُ التَّقْوَى كَمَا قال: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} وَقال: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}. فَعُلِمَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالتَّقْوَى. وَمِنْهُ التَّزَكِّي بِالطَّهَارَةِ وَبِالصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}. و{ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} قَدْ يَعْنِي بِهِ الإيمان بِاَللَّهِ و(الصَّلَاةَ): الْعَمَلَ. فَقَدْ يذكر اسْمَ رَبِّهِ مَنْ لَا يُصَلِّي. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقول: هُوَ ذِكْرُ اسْمِهِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ. وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَدَّمَ التَّزَكِّي فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَكَانَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ إذَا أَدَّوْا صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ يَتَأَوَّلُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ أَظُنُّهُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ أمام كُلِّ صَلَاةٍ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَلما قَدَّمَ اللَّهُ الصَّلَاةَ على النَّحْرِ فِي قولهِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وَقَدَّمَ التَّزَكِّي على الصَّلَاةِ فِي قولهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى} كَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الصَّدَقَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ وَأَنَّ الذَّبْحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي عِيدِ النَّحْرِ. وَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مِنْ التَّزَكِّي الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ. فَإِنَّ اللَّهَ يَقول {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. فَمَقْصُودُ الصَّوْمِ التَّقْوَى وَهُوَ مِنْ مَعْنَى التَّزَكِّي. وَفِي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ طهرة لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ.
فَالصَّدَقَةُ مِنْ تَمَامِ طهرة الصَّوْمِ. وَكِلَاهُمَا تَزَكٍّ مُتَقَدِّمٌ على صَلَاةِ الْعِيدِ. فَجَمَعَتْ هَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ التَّرْغِيبَ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الإيمان وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَفِي قولهِ: {بَلْ تؤثرون الْحَيَاةَ الدنيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وأبقى} الإيمان بِالْيوم الْآخِرِ. وَهَذِهِ الْأُصُولُ الْمَذْكُورَةُ فِي قولهِ: {إنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَالَّذينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيوم الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. وَقال: {إنَّ هَذَا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إبراهيم وموسى}. وَقال: أيضًا {أَفَرَأَيْتَ الَّذي تولى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإبراهيم الَّذي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} وَأيضًا فَإِنَّ إبراهيم صَاحِبَ الْمِلَّةِ وَأمام الْأُمَّةِ.
قال اللَّهُ تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَقال: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبراهيم إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}. وَقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} وَقال: {إنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} وَقال: {إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ أماما}. وموسى صَاحِبُ الْكتاب وَالْكَلَامِ وَالشَّرِيعَةِ الَّذي لَمْ يَنْزِلْ مِنْ السماء كتاب أَهْدَى مِنْهُ وَمِنْ القرآن. وَلِهَذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ كَقولهِ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكتاب الَّذي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا} إلَى قوله: {وَهَذَا كتاب أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} وَقوله: {قالوا سِحْرَانِ} إلَى قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِكتاب مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} وَقول الْجِنِّ: {إنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لما بَيْنَ يَدَيْهِ} وَقولهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وكفرتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ} وَقول النَّجَاشِيِّ (إنَّ هَذَا وَاَلَّذي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحدةٍ). وَقِيلَ فِي مُوسَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَفِي إبراهيم {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبراهيم خَلِيلًا} وَأَصْلُ الْخُلَّةِ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالْعِبَادَةُ غَايَةُ الْحُبِّ وَالذُّلِّ. وموسى صَاحِبُ الْكتاب وَالْكَلَامِ. وَلِهَذَا كَانَ الْكُفَّارُ بِالرُّسُلِ يُنْكِرُونَ حَقِيقَةَ خُلَّةِ إبراهيم وَتَكْلِيمِ مُوسَى. وَلما نَبَغَتْ الْبِدَعُ الشَّرِكِيَّة فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْكَرَ ذَلِكَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فَقتلهُ الْمُسْلِمُونَ لما ضَحَّى بِهِ أَمِيرُ الْعِرَاقِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقال: (ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبراهيم خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا). ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَلما بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. وَهُمْ فِي الْأَصْلِ صِنْفَانِ- أُمِّيُّونَ وَكتابيُّونَ. وَالْأُمِّيُّونَ كَانُوا يَنْتَسِبُونَ إلَى إبراهيم فَإِنَّهُمْ ذُرِّيَّتُهُ وخزان بَيْتِهِ وَعلى بَقَايَا مِنْ شَعَائِرِهِ. وَالْكتابيُّونَ أَصْلُهُمْ كتاب مُوسَى. وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ بَدَّلَتْ وَغَيَّرَتْ. فَأَقَامَ مِلَّةَ إبراهيم بَعْدَ اعْوِجَاجِهَا وَجَاءَ بِالْكتاب الْمُهَيْمِنِ الْمُصَدِّقِ لما بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُبَيِّنِ لما اُخْتُلِفَ فِيهِ وَمَا حُرِّفَ وَكُتِمَ مِنْ الْكتاب الْأَوَّلِ.
فَصْلٌ:
وَإبراهيم وموسى قَامَا بِأَصْلِ الدِّينِ الَّذي هُوَ الإِقرار بِاَللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَمُخَاصِمَةُ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ. فَأَمَّا إبراهيم فَقال اللَّهُ فِيهِ {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذي حَاجَّ إبراهيم فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إذْ قال إبراهيم رَبِّيَ الَّذي يُحْيِي وَيُمِيتُ قال أنا أُحْيِي وَأُمِيتُ قال إبراهيم فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وَذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ إرَادَةَ إحْيَاءِ الْمَوْتَى فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَخْذِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الطَّيْرِ. فَقَرَّرَ أَمْرُ الْخلق وَالْبَعْثِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ الإيمان بِاَللَّهِ وَالْيوم الْآخِرِ. وَهُمَا اللَّذَانِ يَكْفُرُ بِهِمَا أَوْ بِأحدهِمَا كُفَّارُ الصَّابِئَةِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذينَ بُعِثَ الْخَلِيلُ إلَى نَوْعِهِمْ. فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ وُجُودَ الصَّانِعِ؛ وَفِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ صِفَاتِهِ؛ وَفِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ خَلْقَهُ وَيَقول: إنَّهُ عِلَّةٌ؛ وَأَكْثَرُهُمْ يُنْكِرُونَ إحْيَاءَ الْمَوْتَى. وَهُمْ مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ الْعُلْوِيَّةَ وَالْأَصْنَامَ السُّفْلِيَّةَ. وَالْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ رَدَّ هَذَا جَمِيعَهُ. فَقَرَّرَ رُبُوبِيَّةَ رَبِّهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَرَّرَ الْإِخْلَاصَ لَهُ وَنَفَى الشِّرْكَ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا. وَقَرَّرَ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَاسْتَقَرَّ فِي مِلَّتِهِ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُ بِاِتِّخَاذ اللَّهِ لَهُ خَلِيلًا.
ثُمَّ إنَّهُ نَاظَرَ الْمُشْرِكِينَ بِعِبَادَةِ مَنْ لَا يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ. فَقال لِأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}.
وقال لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: {مَا تَعْبُدُونَ قالوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قال هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} إلَى قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} إلَى آخَرِ الْكَلَامِ. وَقال: {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَقال: {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إلَّا الَّذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لعلهمْ يَرْجِعُونَ} فَإبراهيم دَعَا إلَى الْفِطْرَةِ. وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ وَالإِقرار بِصِفَاتِ الْكَلِمَاتِ لِلَّهِ وَالرَّدِّ على مَنْ عَبَدَ مَنْ سَلَبَهَا. فَلما عَابَهُمْ بِعِبَادَةِ مِنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ قال: {رَبَّنَا إنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى على اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السماء الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي وَهَبَ لِي على الْكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} وَلما عَابَهُمْ بِعِبَادَةِ مَنْ لَا يُغْنِي شَيْئًا فَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ قال: {الَّذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يوم الدِّينِ} فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لِقَلْبِهِ وَجِسْمِهِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ ذَلِكَ. وَهُوَ أَمْرُ الدِّينِ وَالدنيا. فَمَنْفَعَةُ الدِّينِ الْهُدَى؛ وَمَضَرَّتُهُ الذُّنُوبُ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ الْمَغْفِرَةُ. وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ. وَمَنْفَعَةُ الْجَسَدِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ؛ وَمَضَرَّتُهُ الْمَرَضُ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ الشِّفَاءُ. وَأَخْبَرَ أَنَّ رَبَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَأَنَّهُ فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَإِحْيَاؤُهُ فَوْقَ كَمَالِهِ بِأَنَّهُ حَيٌّ. وَأَنَّهُ فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ يَقْتَضِي إمْسَاكَهَا وَقِيَامَهَا الَّذي هُوَ فَوْقَ كَمَالِهِ بِأَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ حَيْثُ قال عَنْ النُّجُومِ {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} فَإِنَّ الْآفِلَ هُوَ الَّذي يَغِيبُ تَارَةً وَيَظْهَرُ تَارَةً فَلَيْسَ هُوَ قَائِمًا على عَبْدِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَاَلَّذينَ يَعْبُدُونَ مَا سِوَى اللَّه مِنْ الْكَوَاكِبِ وَنَحْوِهَا وَيَتَّخِذُونَهَا أَوْثَانًا يَكُونُونَ فِي وَقْتِ الْبُزُوغِ طَالِبِينَ سَائِلِينَ وَفِي وَقْتِ الْأُفُولِ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُمْ وَلَا مُرَادُهُمْ. فَلَا يَجْتَلِبُونَ مَنْفَعَةً وَلَا يَدْفَعُونَ مَضَرَّةً وَلَا يَنْتَفِعُونَ إذْ ذَاكَ بِعِبَادَةِ. فَبَيَّنَ مَا فِي الْآلِهَةِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ النَّقْصِ وَبَيَّنَّ مَا لِرَبِّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ الْكَمَالِ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ الْفَاطِرُ الْعَلِيمُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْهَادِي الرَّازِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ. وَسَمَّى رَبَّهُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الدَّالَّةِ على نُعُوتِ كَمَالِهِ فَقال: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكتاب وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَقال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} فَوَصَفَ رَبَّهُ بِالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ الْمُنَاسِبِ لِمَعْنَى الْخُلَّةِ كَمَا قال: {إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} وموسى عليه السلام خَاصَمَ فِرْعَوْنَ الَّذي جَحَدَ الرُّبُوبِيَّةَ وَالرِّسَالَةَ وَقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى} و{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي}. وَقِصَّتُهُ فِي القرآن مُثَنَّاةٌ مَبْسُوطَةٌ لَا يَحْتَاجُ هَذَا الْمَوْضِعُ إلَى بَسْطِهَا. وَقَرَّرَ أيضًا أَمْرَ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ وَنَفَى الشِّرْكَ.
وَلما اتَّخَذَ قَوْمُهُ الْعِجْلَ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ صِفَاتِ النَّقْصِ الَّتِي تُنَافِي الْأُلُوهِيَّةَ فَقال: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}. وَقال: {فَقالوا هَذَا إلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قولا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَقَدْ قال لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَوَّتَ صَوْتًا هُوَ خُوَارٌ فَإِنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قولا وَأَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ سبحانه على لِسَانِ مُحَمَّدٍ فِي الشِّرْكِ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَقال: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخلق شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ إنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعين يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} وَاسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ وَجُحُودٍ لِطُرُقِ الْإِدْرَاكِ التَّامِّ وَهُوَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ. وَالْعَمَلُ التَّامُّ وَهُوَ الْيَدُ وَالرِّجْلُ كَمَا أَنَّهُ سبحانه لما أَخْبَرَ فِيمَا رَوَى عَنْهُ رَسُولُهُ عَنْ أَحْبَابِهِ الْمُتَقَرِّبِينَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ فَقال: «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلى بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ. فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا».
فَصْلٌ:
وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُتَّبِعُونَ لِإبراهيم وموسى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعين يُثْبِتُونَ مَا أَثْبَتُوهُ مِنْ تَكْلِيمِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَسَائِرَ مَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالْمَثَلِ الأعلى. وَيُنَزِّهُونَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْأَجْسَادِ الَّتِي لَا حَيَاةَ فِيهَا. فَإِنَّ اللَّهَ قال: {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثم إنابَ} وَقال: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ}. وَقال: {عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} فَوَصَفَ الْجَسَدَ بِعَدَمِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْمَوْتَانِ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَنْطِقُ وَلَا يُغْنِي شَيْئًا. وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُمْ سَلَكُوا سَبِيلَ أَعْدَاءِ إبراهيم وموسى وَمُحَمَّدٍ الَّذينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَاِتَّخَذَ إبراهيم خَلِيلًا. وَقَدْ كَلَّمَ اللَّهُ مُحَمَّدًا وَاِتَّخَذَهُ خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبراهيم خَلِيلًا وَرَفَعَهُ فَوْقَ ذَلِكَ دَرَجَاتٍ: وَتَابَعُوا فِرْعَوْنَ الَّذي قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذبًا} وَتَابَعُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذينَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قالوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لما تَأْمُرُنَا} وَاتَّبَعُوا الَّذينَ أَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ. فَهُمْ يَجْحَدُونَ حَقِيقَةَ كَوْنِهِ الرَّحْمَنَ أَوْ أَنَّهُ يَرْحَمُ أَوْ يُكَلِّمُ أَوْ يَوَدُّ عِبَادَهُ أَوْ يَوَدُّونَهُ أَوْ أَنَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالْأَجْسَامِ الْحِسِّيَّةِ وَهِيَ الْحَيَوَانُ كَالْإِنْسَانِ وَأَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ. فَهُمْ قَدْ شَبَّهُوهُ بِالْأَجْسَادِ الْمَيِّتَةِ فِيمَا هُوَ نَقْصٌ وَعَيْبٌ وَتَشْبِيهٌ دَلَّتْ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْفِطْرَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَنَّهُ عَيْبٌ وَنَقْصٌ بَلْ يَقْتَضِي عَدَمُهُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ فِيمَا قالوهُ تَشْبِيهًا مَا فَلَيْسَ هُوَ تَشْبِيهًا بِمَنْقُوصِ مَعِيبٍ وَلَا هُوَ فِي صِفَةِ نَقْصٍ أَوْ عَيْبٍ بَلْ فِي غَايَةِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ الْكَمَالُ وَأَنَّ لِصَاحِبِهِ الْجَلَالَ وَالْإِكْرَامَ.
فَصَارَ أَهْلُ السُّنَّةِ يَصِفُونَهُ بِالْوُجُودِ وَكَمَالِ الْوُجُودِ وَأُولَئِكَ يَصِفُونَهُ بِعَدَمِ كَمَالِ الْوُجُودِ أَوْ بِعَدَمِ الْوُجُودِ بِالْكُلِّيَّةِ. فَهُمْ مُمَثِّلَةٌ مُعَطِّلَةٌ مُمَثِّلَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مُعَطِّلَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. أَمَّا فِي الْعَقْلِ فَلِأَنَّهُمْ مَثَّلُوهُ بِالْعَدَمِ وَالْأَجْسَادِ الْمَوْتَانِ. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَإِنَّهُمْ مَثَّلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ صِفَاتِهِ بِنَفْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ كَانَ هَذَا التَّمْثِيلُ الَّذي ادَّعَوْا أَنَّهُ مَعْنَى النُّصُوصِ أَقَلَّ تَمْثِيلًا مِنْ تَمْثِيلِهِمْ الَّذي ادَّعَوْهُ. وَأَمَّا تَعْطِيلُهُمْ فِي الْعَقْلِ فَإِنَّهُ تَعْطِيلٌ لِلصِّفَاتِ تَعْطِيلٌ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ الذَّاتِ. وَلِهَذَا أُلْجِئُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى نَفْيِ الذَّاتِ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارُوا على طَرِيقَةِ فِرْعَوْنَ لَا يُقِرُّونَ إلَّا بِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُنَافِقُونَ فَيُقِرُّونَ بِأَلْفَاظٍ لَا مَعْنَى لَهَا أَوْ بِعِبَادَاتٍ لَا مَعْبُودَ لَهَا. وَأَمَّا تَعْطِيلُهُمْ لِلشَّرْعِ فَإِنَّهُمْ جَحَدُوا مَا فِي كُتُبِ اللَّهِ مِنْ الْمَعَانِي وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ أَوْ قالوا: نَحْنُ كَالْأُمِّيِّينَ لَا نَعْلَمُ الْكتاب إلَّا أَمَانِيَّ أَوْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ. وَقالوا لما جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكتاب وَالسُّنَّةِ نَظِيرَ مَا قالتْهُ الْكُفَّارُ {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} و{قالوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقول}. وَهَكَذَا قال هَؤُلَاءِ: لَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا يَقول الرَّسُولُ وَقالوا كَمَا قال الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ لِلرَّسُولِ فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ {قالوا لِلَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذا قال آنِفًا}. وَصَارُوا كَاَلَّذينَ قِيلَ فِيهِمْ: {وَإِذَا قرأتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقرا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْا على أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا}. فَتَدَبَّرْ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ مِنْ نَفْيِ فِقْهِهِمْ وَتَكْذيبِهِمْ تَجِدْ بَعْضَ ذَلِكَ فِيمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ تَدَبُّرِ كتابهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ وَمَا تُوحِيهِ إلَى أَوْلِيَائِهَا وَاَللَّهُ يَهْدِينَا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا.
وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةُ الْمُشَابِهُونَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ الصَّابِئَةِ وَغَيْرِهِمْ الْجَأحدةِ لِوُجُودِ الصَّانِعِ أَوْ صِفَاتِهِ تَرْمِي أَهْلَ الْعِلْمِ وَالإيمان وَالْكتاب وَالسُّنَّةِ تَارَةً بِأَنَّهُمْ يُشْبِهُونَ الْيَهُودَ لما فِي التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصِّفَاتِ وَلما ابْتَدَعَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ مِنْ التَّشْبِيهِ الْمَنْفِيِّ عَنْ اللَّهِ؛ وَتَارَةً بِأَنَّهُمْ يُشْبِهُونَ النَّصَارَى لما أَثْبَتَتْهُ النَّصَارَى مِنْ صِفَةِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَلما ابْتَدَعَتْهُ مِنْ أَنَّ الْأَقَانِيمَ جَوَاهِرُ وَأَنَّ أُقْنُومَ الْكَلِمَةِ اتَّحَدَ بِالنَّاسُوتِ. وَهَذَا الرَّمْيُ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِمْ قَبْلَ الإمام أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَفِي زَمَنِهِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ أَصْحَابِهِ حِكَايَةُ ذَلِكَ. ذَكَرَهُ فِي كتاب (الرَّدِّ على الْجَهْمِيَّة وَالزَّنَادِقَةِ) وَأَنَّهُمْ قالوا إذَا أَثْبَتُّمْ الصِّفَاتِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِقول النَّصَارَى. وَرَدَّ ذَلِكَ. وَفِي (مَسَائِلِهِ): أَنَّ طَائِفَةً قالوا لَهُ: مَنْ قال القرآن غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ هُوَ فِي الصُّدُورِ. فَقَدْ قال بِقول النَّصَارَى. وَهَكَذَا الْجَهْمِيَّة تَرْمِي الصفاتية بِأَنَّهُمْ يَهُودُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ مُتَقَدِّمِي الْجَهْمِيَّة وَمُتَأَخَّرِيهِمْ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِي الجهمي الْجَبْرِيُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَخْرُجُ إلَى حَقِيقَةِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ كتابهُ الْمَعْرُوفَ فِي السِّحْرِ وَعِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ. مَعَ أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُحَرِّمُ ذَلِكَ وَيَنْهَى عَنْهُ مُتَّبِعًا لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكُتُبِ وَالرِّسَالَةِ. وَيَنْصُرُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا يُشَكِّكُ أَهْلَهُ وَيُشَكِّكُ غَيْرَ أَهْلِهِ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ. وَقَدْ يَنْصُرُ غَيْرَ أَهْلِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّشْكِيكُ وَالْحَيْرَةُ أَكْثَرُ مِنْ الْجَزْمِ وَالْبَيَانِ. وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَجْوِبَةٌ. أحدهَا: أَنَّ مُشَابَهَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَيْسَتْ مَحْذُورًا إلَّا فِيمَا خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَنُصُوصَ الْكتاب وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ. وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ دِينَ الْمُرْسَلِينَ وَاحد وَأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالقرآن خَرَجَا مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحدةٍ. وَقَدْ اسْتَشْهَدَ اللَّهُ بِأَهْلِ الْكتاب فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَتَّى قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وكفرتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ}. فَإِذَا أَشْهَدَ أَهْلَ الْكتاب على مِثْلِ قول الْمُسْلِمِينَ كَانَ هَذَا حُجَّةً وَدَلِيلًا وَهُوَ مِنْ حِكْمَةِ إقرارهم بِالْجِزْيَةِ. فَيَفْرَحُ بِمُوَافَقَةِ الْمَقالةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْكتاب وَالسُّنَّةِ لما يَأْثُرُهُ أَهْلُ الْكتاب عَنْ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَهُمْ. وَيَكُونُ هَذَا مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَمِنْ حُجَجِ الرِّسَالَةِ وَمِنْ الدَّلِيلِ على اتِّفَاقِ الرُّسُلِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُشَابَهَةَ الَّتِي يَدْعُونَهَا لَيْسَتْ صَحِيحَةً. فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَا يُوَافِقُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِيمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ وَالِاعْتِقَاد. وَلِهَذَا قُلْت فِي بَيَانِ فَسَادِ قول ابْنِ الْخَطِيبِ: إنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مَقالةَ أَهْلِ الْحديث وَالسُّنَّةِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يَفْهَمْ مَقالةَ النَّصَارَى. وَأَوْضَحْت ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ كَمَا بَيَّنَ الإمام أَحْمَد الْفَرْقَ بَيْنَ مَقالةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَبَيْنَ مَقالةِ النَّصَارَى الْمُبْتَدَعَةِ وَكَمَا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ مَقالةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمَقالةِ الْيَهُودِ الْمُبْتَدَعَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا فُرِضَ مُشَابَهَةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لِلْيَهُودِ أَوْ النَّصَارَى فَأَهْلُ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ مُشَابِهُونَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ. وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ مُشَابَهَةَ أَهْلِ الْكتابيْنِ خَيْرٌ مِنْ مُشَابَهَةِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكتاب مِنْ الْكُفَّارِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالنُّبُوَّاتِ وَنَحْوِهِمْ. وَلِهَذَا قِيلَ: الْمُشَبِّهُ أَعْشَى وَالْمُعَطِّلُ أَعْمَى. وَلِهَذَا فَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ على عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِانْتِصَارِ النَّصَارَى على الْمَجُوسِ كَمَا فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِانْتِصَارِ الْمَجُوسِ على النَّصَارَى. فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ نَافِعٌ فِي مَوَاضِعَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْقدريَّةِ مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهُمْ يَجْعَلُونَ الصفاتية نَصَارَى الْأُمَّةِ وَيَمِيلُونَ إلَى الْيَهُودِ لِمُوَافَقَتِهِمْ لَهُمْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ أَكْثَرَ مِنْ النَّصَارَى كَمَا يَمِيلُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ إلَى النَّصَارَى أَكْثَرَ مِنْ الْيَهُودِ. فَإِذَا كَانَ الصفاتية إلَى النَّصَارَى أَقْرَبَ وَضِدُّهُمْ إلَى الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ أَقْرَبَ تَبَيَّنَ أَنَّ الصفاتية أَتْبَاعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ الَّذينَ فَرِحُوا بِانْتِصَارِ الرُّومِ النَّصَارَى على فَارِسَ الْمَجُوسِ وَأَنَّ الْمُعَطِّلَةَ هُمْ إلَى الْمُشْرِكِينَ أَقْرَبُ الَّذينَ فَرِحُوا بِانْتِصَارِ الْمَجُوسِ على النَّصَارَى. اهـ.